سلم الخشوع في الصلاة
إنّ من أعظم النّعم التي أنعم الله بها على عباده المسلمين أن شرع لهم خمس صلواتٍ في اليوم يقفون بين يديه سبحانه و يهرعون إليه راجين رحمته في كل حين. فالصّلاة هي الرّكن الأعظم وهي غُرّة العبادات و أحبّ الأعمال إلى الله وأفضلها وهي الصلّة الوثقى بين العبد وربه، يذكره بها ويُجدّد العهد به، كما قال سبحانه: ﴿وأقم الصّلاةَ لِذكْري﴾. طه ١٤.
ولهذه الفريضة أسراراً وحكماً ربانيّةً لا يُدركهَا إلاَّ الذّي يُقْبِلُ عليها بقلبٍ مُحِبٍّ صادقٍ خاشِع.
فكيف يمكنني أن أحققّ ذلك الخشوع الذي يقربني من ربي ويجعلني أعيش الصلاة بكلّ معانيها ؟
ممّا يجب أن نَّعرفه أنّ الخشوع هو مسألة قلبيّة يعني يترتّب عليها سكونٌ في الهَيئة وانفعال في الوجدان بما يلائم مقصود العبادة. ليس من السّهل أن يأتي أحد ويقول سأبحث في الكتب حول الخشوع و سأكتسب الخشوع الآن و أتعلمه .. فالخشوع لا يأتي فجأة لأنّه عملٌ قلبيٌّ وشعور فيّاض يأتي من داخلك عندما تقف بين يدي الله عز وجلّ في الصّلاة.
لذا فأول شيءٍ علينا فعله هو الاِشتغال على هذا القلب الذي هو وعاء الخشوع، من خلال الاِجتهاد على تزكيته و تطهيره من الذنوب والضّغائن كلّها وغيرها من الطّبائع السَّيئة التي تُشّكل غِشاوةً على قلب المسلم فتَحُولُ بينه وبين الخشوع، فالعمل ينعكس على القلب صالحا كان أم سيِّئا، كما في الحديث الشريف، عنِ النُّعمان بن بشير رضِيَ الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ألا وإنَّ في الجسَد مُضْغةً، إذا صَلَحَتْ صَلَح الجسَدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسَدَ الجسَدُ كله، ألا وهي القلب”
صحيح البخاري ٢٣٤
في هذا النشاط الورقة الاولى صممنا سلم ووضعنا الخطوات بالترتيب على السلم، يمكن طباعته وتعليقه امام الاطفال. نتدرب مع الاطفال على الخطوات ونساعدهم على تحقيق الخشوع في الصلاة. في الورقة الثانية يوجد قلوب يمكن كتابة اسم الطفل على القلب وقصه ثم الصاقه على السلم كي يصعد القلب السلم كلما ارتقى قلبه في الخشوع في الصلاة.
اليكم خطوات تعين المسلم على تحقيق الخشوع في الصّلاة :
١. الدعــاء
وممّا يجب أن لاّ يغفل عنه المسلم وهو الِاستعانة بالدُّعاء الخالص لرّبه أن يعينه على الخشوع في الصَّلاة وتأديتها بشكلٍ صحيحٍ دون نقصٍ فيها، وأن يثبِّت قلبه على ذلك؛ لأنَّ قلب الإنسان يتقلَّب بين لحظةٍ وأُخرى، وهذا ما يجعله يتشتَّت ويلهو عن صلاته. فالدّعاء مهم جدا كأن يقول المسلم وهو ساجد ” ياربّي أعنّي على الخشوع” ياربي ساعدني على الخشوع في صلاتي وأذهب عني الوساوس ونزغات الشيطان ..” اللهم ثبّت قلبي على دينك فإنك تثبت من تشاء إنّك رؤوف رحيم …” فإن كل ّ مراد صغير أو كبير وكل ّ خير لا يبلغه المسلم إلا بتوفيق من الله ، فعلينا أن نحرص على الدعاء ليوفقنا الله في صلاتنا وسائر عباداتنا.
٢. اختيار مكان مناسب للصّلاة بعيدا عن التّشويش
من المهم أيضا توفير الجوّ المناسب للصّلاة فلا يعقل أن يشرع المسلم في صلاته والتّلفاز مشتغل أمامه بصوت عال ، أو حوله ضجة كبيرة وأحاديث .. أو يصلي وأمامه لوحات كبيرة وصور ملفتة تشَوّش ذهنه .. فيجب أن نصلي في مكان يليق بشعيرة الصّلاة .
عن أنس بن مالك قال: كان لعائشة قرامٌ سَتَرَتْ به جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هذا، فإنَّه لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ في صَلَاتِي. صحيح البخاري 374 ، والقرام هو ستار غطّت به عائشة جانب بيتها .
فالشّاهد من هذا الحديث أن لا يصلّي الاِنسان في مكان فيه أشياء تُلهيه وتشغله عن أداء صلاته والخشوع فيها.
٣. حفظ وترتيل آيات جديدة للمساعدة في التركيز
ممّا قد يساعد على حضور الخشوع في الصّلاة أن يقرأ المصلّي بآيات حفظَها من جديد .. فعندما تكون الآيات حديثة الحفظ فهو يركز أكثر في الصّلاة وينتبه للآيات كي لا يخطئ فيها. والمسلم الفطن يسعى ويجتهد لحفظ سور جديدة ليصلّي بها في صلاته ، لكي يجدد الخشوع فيها في كل مرة .
٤. مناجاة الله تعالى
عن أنس رضي الله عنه عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا قام أحدكم يصلي فإنه يناجي ربه” أي أنّه يكلّم ربّه. صحيح البخاري رقم 405 .
هكذا يجب أن يعتبر المصلّي كل صلاته أنّها مناجاة بينه وبين ربّه الرّحيم الحنّان المنّان .. فتسكن جوارحه ويشعر بالاِطمئنان ..ويقرأ الآيات وكأنّه هو المخاطب فيها ..ويستشعر أنّه يكلّم اللّه وأنّ الله يكلّمه، كما جاء في حديث سورة الفاتحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : قال الله تعالى : قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي ، وقال مرة : فوض إلي عبدي ، فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل- وفي رواية : – قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي . رواه مسلم رقم 595 .
فإنّها لكرامة أكرم الله بها العبد المسلم أن يقسم الحق سبحانه الصلاة بينه وبين عبده ويكلمه فيها ويجازيه بذلك وينعم عليه.
٥. استحضار الثوابِ المُتَرتب على الخشوع
لقد ابتدأ الله سورة ” المومنون” بمدحِ عباده المؤمنين المُفلحين ، وأوّل صفةٍ ذكرها هي الخشوع في الصّلاة ،قال سبحانه : قَدْ أفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) اَلَّذ۪ينَ هُمْ ف۪ي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ وفي نهاية الآيات ذكر الجزاء الذي أعدّه لهم فقال سبحانه: ﴿ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡوَ ٰرِثُونَ ١٠ ٱلَّذِینَ یَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ ١١﴾ ، فهذا أعظم جزاءٍ ينالُه الخاشِع في صلاتِه هو الفوز بالفردوس الأعلى.
وذكر لنا النّبيُّ ﷺ أيضا في الحديث أنّ الصّلاة والخشوع فيها سببٌ لمغفرة الذنوب . فعن عثمان رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِن امرئٍ مسلم تَحْضُره صلاةٌ مكتوبة، فيُحسِن وضوءها، وخشوعَها، وركوعَها، إلا كانتْ كفَّارةً لما قبْلها منَ الذنوب، ما لم يُؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه))
صحيح مسلم. 1/ 206رقم: 288
فهنيئا بالجزاء العظيم لكل من يُصلي بخشوع ويحب صلاته ويتقنها.
٦. حبّ الصلاة
قال سبحانه ” وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون (46 ﴾ البقرة .فعندما تُقْبِِلُ إلى الله بحبٍّ فإنّك ستؤدي الصّلاة بخشوع وتجتهدُ في استحضار قلبك ، ففرقٌ كبير بينَ من يأتي إلى الصّلاة وهو يحبُّ الصلاة .. يحب الله الذي خلقه وأنعم عليه .. وبَيْن من يأتي للصّلاة يَنقُرها نقر الغراب بأقصى سرعة ليرتاح منها… فرق كبيرٌ بين من يُؤَدّي الصَّلاة بأنّها عبادة عظيمة تريحُ النَّفس ،يُكّلم فيها ربّه ويطلب منه ما يشاء وهو ساجد يشعر بالقرب منهُ والِافتقار إليه .. وبين من يؤَدّي الصّلاة بأنّها عادة ثقيلة يريد أن يتخلص منها بسرعة ..بل بعض النّاس يُصلّون وهم يدفعون الحدث فيصلون كسرعة البرق ثم يسرعون إلى الحمام، وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلّم عن ذلك، فمن الأفضل إذا عرضه الحدث أن يُجدّد وضوءه أوّلأ ثم ليصلّ بتركيزٍ خير له من صلاةٍ يسابق فيها الرّيح لا رُوحَ فيها أبدا.
وأعظم من علّمنا حبّ الصّلاة هو رسول الله ﷺ قال “وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ” فتح الباري لابن حجر/ 3/20 . والقَرُور في اللغة هو الماء البارد ومعنى قرّة العين يعني قمّة السرور والارتياح والرّضا. فمنتهى سروره وسعادته صلّى الله عليه وسلّم كان يجدها في الصّلاة. و كان يقولُ لبلال بن رباح رضي الله عنه ” أرحنا بها يابلال” يعني أذّن للصّلاة وأعلنْ وقت السّرور وراحة النّفس .
وكان ﷺ إذا حزبَهُ أمرٌ أي أصابَه شيءٌ، هرَع وأسرع إلى الصّلاة لأنّه يجد فيها راحته ،فالّذي يُحبُّ اللهَ يُحبُّ الصّلاة ، وهذا الحبّ يطبعُ النَّفس على الحياء من الله ، فيستحيِي العبدُ من ربّه أن يراه في كل مرّة في الصّلاة كخشبةٍ جامدة تتحرّك جوارحهُ وقلبهُ غائبٌ وعقلهُ سارح في مشاغل الدنيا.
٧. التّأني في الصلاة
و ممّا يعين على الخشوع هو التّأني في القراءة وسائر الأركان، فأيّ سورة يقرؤُها في صلاته ولو كانت قصيرة عليه أن يقرأها بتأنٍّ، وإذا كانتِ الصّلاة جهريةً فليجهر بها إذا كان يصلي منفردا..فذلك يعينه على الخشوع أكثر ..، أمّا القراءة بسرعة فهيَ تُخِلُّ بأركان الصلاة أولاً وتُذهب الخشوع ثانيا ، لذلك على المصلّي أن يكون متأنيّا في قراءته وركوعه وسجوده وقيامه وجلوسه وذكره ، والتأني في الصّلاة بيّنَهُ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في الحديث المشهور الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه : أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ المَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَرَدَّ وقالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرَجَعَ يُصَلِّي كما صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا، فَقالَ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ ما أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقالَ: إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وافْعَلْ ذلكَ في صَلَاتِكَ كُلِّهَا. صحيح البخاري رقم 757.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يُصلّي متأنّياً ويقرأ حتى تُسمَع قراءتُه حرفا حرفاً ، وكان إذا ركع قال : “اللَّهُمَّ لكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي وَعَصَبِي” ما أجمل هذا الدعاء لو تمعّنته جيّدا سبحان الله! يستحيل أن تركع وتكرّر هذا الدّعاء ولا يخشع قلبك ..، وكان ﷺ إذا سجد قال : اللَّهُمَّ لكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ”.
من حديث علي بن أبي طالب / صحيح مسلم رقم 771.
وكان صلى الله عليه وسلم مِن أكثرِ الناسِ خشوعًا في الصلاة؛ قال عبد الله بن الشِّخِّير: “رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي، وفي صدره أزيزٌ كأزيز الرَّحَى مِن البُكاء”.
سنن أبي داود (1/238)، رقم 904 .
٨. أن يَنظرَ المسلمُ إلى موضع السجود
عن أبي ذر رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يزال اللهُ مُقْبِلًا على العبد في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا صَرَفَ وَجْهَهُ، انصرف عنه”
مسند الإمام أحمد” (5/172)..
فليس من الأدب أبداً أن يشرع المسلم في صلاته ثم يبدأ في الاِلتفات إلى أيّ صوت أو يقوم بحكّ بدنِه أو النّظر في ساعته أو غير ذلك ..ممّا يفسر أنّه يشعر بالملل ويريد أن ينتهي بسرعة ، فهذا عبث واستهثار بالفريضة العظيمة، فمثل هذه الحركات تُذْهِب الخشوع بل إنّها إذا كثرت في الصّلاة أبطَلَتْها.
٩. معرفة الله واستحضار عظمته
قبل أن يشرع المسلم في صلاته يجب أن يتذكر أنّه سيقف بين يدي العزيز الواحد الأحد العظيم ذو الجلال والإكرام ، فيلتزم الوقار والسّكون والخضوع له سبحانه، فتعظيم الصلاة من تعظيم الله عز وجلّ. قال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
الزمر ٦٧
١٠. فهم ووعي ما نقوله في الصلاة
الفهم والتّدبر:
قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}
النساء ٨٢
وقال سبحانه : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}
ص ٢٩
فقد أمرنا سبحانه بتدبّر القرآن والوقوف عند آياته والتمعّن فيها، فتحصيل الفهم يساعد المُصلّي على الخشوع أكثر.
والأصل أنَّ قلوب المؤمنين وجلودَهم تخشع وتخضع وترقُّ وتسكن وتطمئنُّ عند ذكر الله ، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
الزمر ٢٣
وروى لنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن الرّسول ﷺ كان إذا مرّ بآية تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوذّ
رواه مسلم ٧٧٢
وفي هذا يقول ابن القيّم أيضا : «فلا شيءَ أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتَّدبُّر والتَّفكُّر؛ فإنَّه جامِعٌ لجميعِ منازلِ السَّائرين، وأحوالِ العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبَّةَ والشَّوقَ والخوفَ والرَّجاءَ والإنابة والتَّوكُّل والرِّضا والتَّفويض والشُّكرَ والصَّبرَ، وسائرَ الأحوال التي بها حياةُ القلب وكمالُه، وكذلك يَزْجُرُ عن جميع الصِّفات والأفعال المذمومة التي بها فَسادُ القلبِ وهلاكُه..فإذا قرأ بتفكُّرٍ، حتَّى إذا مرَّ بآيةٍ وهو محتاج إليها في شفاءِ قلبه، كَرَّرَها ولو مائةَ مرَّة ولو ليلة، فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ ختمةٍ بغيرِ تدبُّرٍ وتفهُّم، وأنفعُ للقلب، وأدعى إلى حصولِ الإيمان وذَوْقِ حَلاوةِ القرآن، فقراءةُ القرآنِ بالتَّفكُّرِ هي أصلُ صَلاحِ القلب”
مفتاح دار السعادة ١٨٧/١
والتّدبّر يشمل أيضا أذكار الصّلاة، فعندما تقول الله أكبر فإنّها تخرج من أعماق قلبك لأنّك تعرف مامعنى “الله اكبر”، الله أكبر من كل شيء، وتعرف معنى “سمع الله لمن حمده”، و معنى كلّ ألفاظ التّشهد.. وغير ذلك ، والاِنسان الذي لايعرف عليه أن يقرأ التّفاسير أو يسأل حتى يجد للصّلاة حلاوة أكثر .
١١. الخوف من الله عز وجل
اذا استحضر المسلم قلبهُ وقال يجبُ أن أحرص على أن أصليَّ صلاةً يقبلهَا اللهُ منّي فإنَّه لا شكّ سيجتهد في الخُشوع فيرجو رحمة ربّه ويخَافُ من أن تُردَّ صلاتُه.
فيروى عن عصام بن يوسف البلخي أنّه سأل حاتماً الأصم قال له :” كيف تصلّي ؟ قال أفعل كما أمرني المَلك أمشي بالخشية ، وأدخل بالنيّة ، وأكبّر بالتعظيم، وأقرأ بالترتيل ، وأركع بالخشوع ، وأسجدُ بالخضوع ، وأجلس بالأدب ، وأسلّم بالتّبتّل ، وأرجعُ بالخوفِ وأقولُ لا أدري أيُقبل مني أم لا ..! فقال عصام: إن كانت هذه هي الصّلاة فما صلّيت صلاةً في عمُري..”
(حلية الأولياء ج 8 ص 74 )، فهذا نموذج من السّلف الصالح الذين عرفوا معنى الصّلاة ومعنى الخشوع ومعنى الخوف والرجاء. فعلينا أن نُقْبِلَ على الله في الصلاة نرجو رحمتهُ ونخاف غضَبه، نرجُو قبولَه وقربَه، ونخافُ من ذنوبنا وعاقبة أعمالنا.
ومما يورث الخشوع أيضا أن ينظر المسلم في عيوب نفسه وعمله فيخاف الله، فهذا الإمام الجنيد -رحمه الله- يذكرون أنّه كان يوماً في مكة فأُذّن بالصّلاة فقيل له تقدّم ياجُنيد فقال لا أصْلُح للإمامة قالوا لا بدّ من تقدمك، فلمّا تقدّم والْتَفتَ إليهم وقال: استَوُوا رحمكم الله .. أُغمِي عليه !، فقدّموا أحدَهم فصلَّى بهم فلمَّا فرغُِوا من صلاَتهم أفرغُوا على الجُنيد بعضَ الماء فاستيقظَ فلما أفاق سألوه ما سبب إغمائك وأيّ شيءٍ شأنُك؟ قال إنّي لما قلتُ لكم استَوُوا فكأنَّ قائِلاً قال لي: أستويتَ أنتَ مع ربّك حتى تأمر غيرك؟
( حلية الأولياء ج10ص 256). سبحان الله أيّ خوف هذا الذي جعله يُغمَى عليه ! هكذا كان السّلف الصّالح يُعظّمون ربّهم ويقدّرون صلاتهم، و قلوبهم مليئة بالخوف والرّجاء معا.
١٢. الرجاء مع العمل
يبتغي المسلم رضوان الله وثوابه ويرجو عفوه ومغفرته ويرجو استجابة دعائه ويرجو دخول الجنّة، وهذا الرّجاء يجعله يجتهد في العمل والعبادة وأهم هذه العبادات هي الصّلاة ، فيؤديها بإتقان وخشوع رجاءً في قَبول الله له وشمله بعنايته ورحمته، ليكون من المؤمنين الخاشعين: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
الأنفال الاية 2.
١٣. حضور القلب كي لا يسرح الذهن
من الطّبيعي أن يسرح كلّ إنسان في الصلاّة وتأخذه الأفكار والوَساويس هنا وهناك .. ولكن هناك من اعتاد على ذلك وهناك من يجاهد نفسه ويتدارك ويرجع بتركيزه فيتمّ خشوعه فيها، مُوقناً يقيناً تامّاً من كلّ قلبه أن كلّ ما يفكر به وكل أمر يهمّه ويشغله فهو بيد الله، فهذه العبادة تجعلك تطرح كلّ شيء خلفك وتلجأ إلى الله وتدعوه ليفرّج عنك تلك الهموم ويخفّف عنك تلك الأثقال.. كأنّك تقول: ياربي ها أنا قد جئت في الوقت الذي أمرتني فيه لأداء صلاتي.. ولم أبق منشغلاً بتلك الهموم لأنّك سيّدي وربّي وربّ هذا الكون على كلّ شيء قدير…
فالذي يعرف ربّه يرجوه ويخاف منه.. وأمّا الذي لايعرفه يبقى قلبه بارداً لا يهتم بشيءٍ لأنه من المنطق أن لا يخاف من شيء لا يعرفه، ولا يتوددُّ ولا يرجو لمن يجهل قدره ونعمه وكرمه .
قال تعالى” {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
البقرة ٤٥ – ٤٦
فالمسلم الذي عرف ربّه أحبّه ولا يستطيع أن يضيِّع الصّلاة ولايستطيع أن يستغنيَ عن فضائلها ولا يفرّط أبدا في لقاء الله فيها على الحال الذي يرضيه عنه.
١٤. حب الله عز وجل
فإذا كان المسلم يحبُّ ربَّه سيشتاق للقائه في كلّ صلاة، فالمحبّة دافع قويٌّ للخشوع بين يدي الله، فكثير منّا دائما ما يحبّ أن يلتقي مع أناسٍ يحبّهم ولهم مكانة في قلبه.. فتجده ينتظر ذلك اليوم الذي سيلتقي بهم وكيف سيعاملهم.. وغير ذلك.
ولله المثلُ الأعلى ..فماذا لو كان الذي نحبّه ونشتاق إليه هو ” الله جلّ جلاله”، بالتّأكيد سيقف المحبّ أمام حبيبه في الصّلاة بكلّ أدبٍ وخشوع وحياء.
والله عزّ وجل يحبّ الذين يحبونه ويتقرّبون إليه بالصّلاة: كما جاء في الحديث القدسي” : (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه)
صحيح البخاري ٦٥٠٢
وفي الختام أسأل الله أن يرزقنا حبّه وحبّ الصلاة والخشوع فيها ، والحمد لله ربّ العالمين .
هذا النشاط جزء من حملة نباتاً حسنا