التّوكل على اللّه هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح، ودفعِ المضارِّ من أمور الدنيا والآخرة، وتوكيل الأمور كلّها إليه سبحانه.

والتَّوكل خلقٌ إيماني عظيم، أمر الله تعالى عباده ليعْتَمِدُوا عليه، ويُفَوِّضُوا أمورَهم إليه، فمِن أسماء الله الحسنى ” الوكيلُ” ، أي المدبّر لأمور لعباده.

قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}

إبراهيم: ١٢.

وقال سبحانه: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}

المزمل ٩

والتّوكل على الله هو راحةٌ وصحّة نفسيّة للصّغار والكبار.

فعندما يتّخذ الإنسان الأسباب ويفوّض أمره للّه يرتاح.

وبعض الآباء يزرعون في نفوس أطفالهم الخوف والقلق والتّوتر منذ الصّغر، خاصّة في موضوع الدّراسة، فتجد الأمهات مثلاً يؤنّبون أطفالهم ويضعونهم في جوٍّ من المراقبة والحرص على ألا يخفقوا أبدا في أي اختبار دراسي ولا يسمح لهم أبدا الحصول على علامة متدنيّة.. فتجد الطّفل يذهب إلى المدرسة وهو خائف غير واثق بنفسه، وقد لا ينام إذا كان عنده اختبار .. وهكذا، بينما تجد طفلاً آخر يحظى بتوجيهٍ تربوي سليم، وبإرشاد دينيٍّ يساعده على رفع معنوياته ، وتمتّعه براحة نفسية أكثر، حيث أنّ أمّه تعلّمه أن يستعين بالله عند بداية الدّراسة ويقوم بجهده ثم يتوكل على الله ويسأله التّوفيق ، فكل شيء بيد الله ،فيكفي أن يتوكل على الله وكل ما يصيبه فيه خير له.

ولا ننسى أن نجلس مع أطفالنا ونحدّثهم عن النّماذج الثّلاثة في التّوكل ، لنتخذها قدوةً لنا في حياتنا:

🌸 نماذج في التّوكل على الله:

أولاً: قصّة أمّ موسى عليهما السّلام

عندما قرّر فرعون الطّاغية أن يبحث عن كلّ صبيّ صغير ويقتله ، خافت أم موسى فخبّأت طفلها موسى ، فأوحى الله إليها أن تضعه في التّابوت – وهو صندوق من الخشب- ثم ترميه في البحر ، ففعلت ذلك وقلبها حزين، ولكنّها رمته في البحر وهي واثقة باللّه أنّه سيحفظه، وفعلاً حفظه الله لها وأعاده إليها سالماً.

ثانياً: قصّة هاجر عليها السّلام.

سيدتنا هاجر ظهر موقفها في التّوكل على الله بعد أن تركها سيدنا إبراهيم عليه السلام في مكة، فسألته: “آلله أمرك؟” وعندما أجابها أن الله عز وجل هو من أمره بتركها هناك في صحراء مكة، قالت له: “اذهب فلن يضيّعنا الله”،( هذه الكلمة لّخّصت كلّ معاني التّوكل على الله) ” لن يضيعنا الله” ، وعندما عطشت هي وابنها الرّضيع إسماعيل (عليه السّلام) ،ذهبت تبحث عن الماء وهي تدعو الله، وإذ بها تسمع صوت ماء، فما أن حفرت قليلاً إلا وتدفّق ماء زمزم لها ولصغيرها، فكانت هذه هي نتيجة توكلها وقولها: ” لن يضيّعنا الله”.

ثالثاً: رسول الله مع أبي بكر في الغار.

هاجر رسول الله ﷺ رفقة أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنه، وكانا مُتوكّلَين على الله بالرغم من ملاحقة المشركين لهما، إلا أنّهما يعلمان أن الله هو الحافظ لهما، ورسول الله اتّخذ كلّ الأسباب ، غيّر الطريق وأخذ معه مرشداً ليدلهم على الطّريق، وترك عليّاً رضي الله عنه ينام مكانه في بيته، وأمر صحابيّا أن يخرج بالغنم لكي يتلف آثار أقدامهم .. وغير ذلك من الأسباب ، ثمّ سلّم أمره لله وتوكّل عليه حق التّوكل وانطلق في هجرته، فحفظه الله تعالى حتّى إن المشركين وصلوا إلى الغار الذي اختبآ فيه ولم يستطيعوا الدخول إليه بإذن الله. فعندما تَصْدُقُ في توكلك على الله فإنّ الله يَصْدقُك ويحفظك.

🌸 فضائل المتوكل على الله

الإنسان المسلم الذي يتوكّل على الله فإنّه يحصل على ميزاتٍ وفضائل كثيرة منها:

أولاً: محبَّةُ الله تعالى

قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ آل عمران: ١٥٩.، فالذي يتوكل على الله في أموره يحبّه الله تعالى.

ثانياً: يكون من أهل الإيمان

قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

المائدة ٢٣

وقال تعالى واصفًا أهل الإيمان الكامل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

الأنفال ٢

فمن صفات أهل الإيمان أنّهم يتوكّلون على ربّهم.

ثالثاً: ينجيه الله من وساس الشيطان ونزغاته

قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}

الإسراء ٦٥

وقال الرّسول ﷺ :”إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِن بَيْتِهِ فَقَالَ: بِاسْمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ”، قَال: َيُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟ .”

أخرجه أبو داود في الأدب برقم ٥٠٩٥

فالذي يتوكّل على الله لا تستطيع الشّياطين أن تغلبه.

رابعاً: كفاية ونصرة الله للمتوكّل

قال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}

الزمر: ٣٨،

وقال سبحانه : {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}

آل عمران ١٦٠

خامساً: يرزقُهم من حيث لا يحتسبون

قال تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

سورة الطلاق ٣

وهذا ما أكَّده حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَو أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا”

الحاكم في المستدرك ٧٨٩٤

فالذي يتوكل على الله حق توكله يتكفّل الله برزقه.

سادساً: الطمأنينة وقوّة الشّخصية

فالذي يتوكل على الله في كل أموره ، تَطْمئِنُّ نفسه أنّه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، وتتكون له شخصيّة قويّة متوازنة، بعكس الذي توكّله على الله ضعيف فتجده خائفاً ويصدق كلّ ما يقال له من خرافات أو إشاعات، فمثلا بعض النّاس يخرجون من بيوتهم فإذا رأوا غرابا أسوداً ، تشاءموا وخافوا بأن يصيبهم مكروه في ذلك اليوم، وهذا ما يسمّى في الإسلام ب” الطِّيرة” واعتبرها الإسلام من أنواع الشّرك بالله .

قال ﷺ: ” الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، ثَلاثًا، وَمَا مِنَّا إِلاَّ، وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّل”

أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم ٩٠٩

فالشيء الذي يُذهب هذا التّطيّر والتشاؤم هو ” التوكل على الله” كما علمنا رسول الله في الحديث.

🌸 الفرق بين التّوكل والتّواكل.

التَّوكل على الله خلق عظيم ولكنّه لا يعني أبداً تركَ الأسباب التي أقامها الله في هذا الوجود، وجعلها مظهرًا من مظاهر حكمته، وإلا فسيتحوّلُ إلى ” التّواكل”، وهذا مرفوض في ديننا ، كأن يجلس أحدٌ في بيته لا يفعل شيئاً ولا يحرّك ساكنا ، ويقول : لا داعي للعمل سيرزقني الله فأنا توكلت عليه فهذا خطأ ، عليه أن يقوم بأسباب ليساعده الله ويوفقه، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أُرْسِلُ ناقتي وأتَوَكَّلُ؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : اعقِلْهَا وتَوَكَّل “

ابن حبان في صحيحه برقم ٧٣١ بسند صحيح.

أي قال له اربط ناقتك وتوكل على الله، وليس تتركها تذهب وتقول أنّك متوكل على الله.

فهذا درس في التّوكل في كل شيء ” اعقلها وتوكّل ” . مثلا بعض الآباء يتركون الحريّة الكاملة لأولادهم وكل الأجهزة متاحة بين أيديهم ثم يقولون نحن نثق في أولادنا ومتوكلين على الله ، لابدّ من أخذ الأسباب النّاجحة في تربيتهم ثم تسليم الأمر لله عز وجل.

وكذلك الطلاب الذين لا يقومون بأي مجهود ، ثم يذهبون ويحفظون أدعية التوكل ويذهبون للامتحان ويظنون أنّهم سنجحون بدون تقديم أي مجهود، فهذا خلل في فهم العقيدة الصّحيحة.

فالمسلم المؤمن هو الذي يجمع بين الأسباب وبين التّوكل ، يوقن ويثق في الله وليس في أسبابه ، ويقول ياربي هذه الأسباب بين يديك وعليك توكلت واعتمدت من كل قلبي ، فوفقني ولا تكلني إلى نفسي فأنت الرّحيم ونعم الوكيل.

والحمد لله رب العالمين

هذا النشاط جزء من حملة نباتاً حسناً